الملّاحان الصغيران

   في ليلة من ليالي الزمن القديم تجاوز النهر الجسور التي أقامها أهل "هولندة" لحماية أراضيهم، ولمّا تجاوز الجسور بدأ يزحف على تلك المدينة الفتيّة.

   وفي تلك الليلة كان الطفل "كورنيليس" نائمًا في مهده الخشبيّ متدثّرًا غطاء كثيفًا وكان المهد على صورة زورق جمع إلى حدّ كبير بين الأناقة والمتانة، فإنّ والد الطفل لمّا كان دهّانًا للسفن، صنع لابنه هذا المهد من خشب البلاط ودهنه جيّدًا بالقطران، ثمّ جمّله بعد ذلك بمظلّة صغيرة الحجم كان ينام عليها كلّ ليلة صديق محبوب "لكورنيليس" وهو قطّ جميل منمّر. وقامت الأم بعمل نصيبها في الزورق، إذ سردت لمهد الصبيّ غطاءً كثيفًا، وحشت بالريش فراشه ووسائده.

   وهكذا كان الطفل نائمًا تحت حماية قطّه حين قهر الموج الجسور فجأة، فهاجم أكثر ما يكون عنفًا منازل المدينة الوادعة، فاقتلع الأشجار من أصولها، وقلب الجدران المتداعية رأسًا على عقب، ودفع في طريقه السفن الطليقة كما لو كانت هذه كتلًا صمّاء من الخشب، وساقها لترتطم بالدور الجميلة، دور صنّاع السفن ودور التجارة.

   أمّا كوخ أسرة "كورنيليس" ذلك الكوخ المسكين، فقد كان أوّل منزل هاجمه الموج، وسرعان ما خرب، وذلك أنّ موجة عظيمة خلعت بضربة واحدة الأبواب والنوافذ، وأطفأت الموقد وقلبت المائدة.

   ولمّا أنهضت الكارثة والدي الطفل من مضجعهما، ودفعتهما يرتطمان هنا وهناك، أخذا يستغيثان وقد غمرهما الماء حتّى منتصفهما، وطفقا يبحثان عن المهد في الوقت الذي كان فيه هذا الأخير قد جرفه التيّار حاملًا معه راكبيه الصغيرين.

   وكم كان هذا الزورق محكم الصنع، فقد ذهب يطرده تيّار ويدنيه تيّار آخر، ولكنّ الأمواج ، وقد هيّجتها الرّيح، بدأت ترقص رقصتها الجهنميّة الكبرى، وشرع المهد حينئذ يجري ويرقص، كما تجري وترقص سفينة تناولتها أيدي بحر صاخب.

   وفي هذه اللحظة العجيبة أظهر القطّ المنمّر، والحارس الرفيق والصديق ذو الفراء، أنّ "قطط هولندة" ملّاحون ماهرون حينما يريدون. فقد هبّ قائمًا على كفوفه، متمكّنًا من وقفته على مظلّة الزورق، وكلّما أمالت المهنّد موجة، مال القطّ نحو الجانب الآخر ليحفظ التوازن.

   وقد استيقظ "كورنيليس" أوّل الأمر من نومه، وردّد وسط العاصفة صرخات ما كان للأمّ أن تسمعها، ولكنّه فهم أنّ هناك من يهزّ مهده بمهارة فائقة، فأرخى، من غير عناء، للكرى جفنه؛ ولحسن الطالع هبّت ريح من الغرب، فصارت المظلّة شراعًا تدفع فيه الريح، وغدا المهد، بمقاومته للتيّار ينتقل على غير هدى فوق سطح الماء دون أن يدع نفسه عرضة للأمواج.

   ولمّا بدا الصباح لم يبق من معالم النهر أيّ أثر، ولم تظلّل السماء سوى بحر من الوحل قد غرست فيه، على غير نسق، بقايا البيوت والسفن والأشجار.

   أمّا سكّان المدينة الذين وجدوا ملجأ في بعض القوارب وتشبّث آخرون منهم بسقوف المنازل العالية، فقد كانوا يتأمّلون تلك النكبة العظمى، وينادي بعضهم بعضًا بصوت كلّه أنين. أمّا والدا "كورنيليس" فقد كانا جاثمين على قمّة إحدى طواحين الهواء يرقبان، دون أمل كبير، تلك المياه الثائرة حنقًا وتلك الأمواج التي اغتصبت منذ الأمس طفلهما المحبوب.

   وفجأة انفجرت من صدرهما صرخة عجب وفرح سرعان ما جاوبها الصدى ألف صرخة من جميع الجهات. فإنّ مهد "كورنيليس" بدا يتهادى وسط الأمواج كمهد في العهد القديم، وظهر على مظلّة المهد قطّ صلب القوائم، مقوّس الظهر وقد رفع ذيله لا اعوجاج فيه، وعرض للريح شاربين ثائرين كما لو كان في معركة. وكان يقود، وهو يميل ذات اليمين وذات اليسار، ذات الأمام وذات الخلف، سفينته الواهنة بالمهارة نفسها التي يستطيع بها ملّاح هرم عوّده البحر أن يتقلّب، جانبي سفينته الكبيرة، وأن يتجنّب هزّات مقدّمها ومؤخّرها. ومع كلّ هذا فإنّ "كورنيليس" كان غارقًا في سباته وهو يمصّ إبهامه.

   وقد استقبل الملّاحان استقبالًا رائعًا وكرّما خير تكريم، وعاش القطّ في المدينة التي عمرت من جديد، حياة جمّلها الشرف، ورقق من حواشيها العطف، حياة هي أقصى ما يتوق إليه قطّ في عالمنا هذا.

   أمّا "كورنيليس" فقد أصبح ملّاحًا مقدامًا شديد اليقظة.